كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وَنَقُولُ: قَدْ تَفَطَّنَّا لِمَا ذَكَرَهُ الْحَافِظُ فَوَجَدْنَا لِجَرْحِ النَّسَائِيِّ لَهُ مَخْرَجًا، وَهُوَ أَنَّ كُلًّا مِنْ عَزْرَةَ بْنِ ثَابِتٍ وَعَزْرَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَدْ وُثِّقَا. وَالنِّسَائِيُّ مِمَّنْ وَثَّقُوا الْأَوَّلَ. فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ الْمَجْرُوحُ غَيْرَهُمَا، فَهُوَ إِمَّا ابْنُ تَمِيمٍ وَإِمَّا ابْنُ يَحْيَى الْمَجْهُولُ- فَكَيْفَ نَأْخُذُ بِحَدِيثٍ مَوْقُوفٍ انْفَرَدَ بِهِ مِثْلُ هَذَيْنِ الرَّاوِيَيْنِ فِي مَسْأَلَةٍ مُخَالِفَةٍ لِنُصُوصِ الْقُرْآنِ الْكَثِيرَةِ.
(3) حَدِيثُ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ: «اقْرَءُوا يس عَلَى مَوْتَاكُمْ» قَالَ فِي الْمُنْتَقَى: رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَأَحْمَدُ وَلَفْظُهُ: «يس قَلْبُ الْقُرْآنِ لَا يَقْرَؤُهَا رَجُلٌ يُرِيدُ اللهَ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ إِلَّا غُفِرَ لَهُ وَاقْرَءُوهَا عَلَى مَوْتَاكُمْ» قَالَ الشَّوْكَانِيُّ فِي شَرْحِهِ لَهُ: الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ وَصَحَّحَهُ وَأَعَلَّهُ ابْنُ الْقَطَّانِ بِالِاضْطِرَابِ وَبِالْوَقْفِ وَبِجَهَالَةِ حَالِ أَبِي عُثْمَانَ وَأَبِيهِ فِي السَّنَدِ، وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ ضَعِيفُ الْإِسْنَادِ مَجْهُولُ الْمَتْنِ وَلَا يَصِحُّ فِي الْبَابِ حَدِيثٌ. اهـ.
أَقُولُ: إِنَّ اللَّفْظَ الْأَوَّلَ لِلْحَدِيثِ لِأَبِي دَاوُدَ وَالْأَخِيرَ لِأَحْمَدَ فِيمَا يَظْهَرُ فَإِنَّ لَفْظَ ابْنِ مَاجَهْ «اقْرَءُوهَا عِنْدَ مَوْتَاكُمْ» يَعْنِي يس، وَالنَّسَائِيُّ لَمْ يُخْرِجْهُ فِي سُنَنِهِ بَلْ فِي عَمَلِ الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ وَابْنُ حِبَّانَ يَتَسَاهَلُ فِي التَّصْحِيحِ فَيُتَثَبَّتُ فِي تَصْحِيحِهِ، وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ نَصٌّ لِلنُّقَّادِ فِي مُعَارَضَتِهِ فِيهِ فَكَيْفَ إِذَا صَرَّحَ جَهَابِذَةُ النُّقَّادِ بِمُعَارَضَتِهِ وَالْجَرْحُ مُقَدَّمٌ عَلَى التَّعْدِيلِ؟ فَكَيْفَ إِذَا كَانَ الْحَدِيثُ الَّذِي صَرَّحُوا بِعَدَمِ صِحَّتِهِ مُخَالِفًا لِلْآيَاتِ الصَّرِيحَةِ وَمَا فِي مَعْنَاهَا مِنَ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ؟ وَلَكِنَّ الَّذِينَ أَخَذُوا قَوْلَ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ بِجَوَازِ الْعَمَلِ بِالْحَدِيثِ الضَّعِيفِ فِي فَضَائِلِ الْأَعْمَالِ لَا يُمَيِّزُونَ بَيْنَ فَضَائِلِ الْأَعْمَالِ الَّتِي تَشْمَلُهَا النُّصُوصُ الْعَامَّةُ وَبَيْنَ مَا تَدُلُّ هَذِهِ النُّصُوصُ عَلَى عَدَمِ جَوَازِهِ، بَلْ عَلَى حَظْرِهِ وَكَوْنِهِ بِدْعَةً مُخَالِفَةً لِأُصُولِ الشَّرِيعَةِ، وَلِذَلِكَ تَجِدُ قِرَاءَةَ سُورَةِ يس عَلَى الْقُبُورِ قَدْ عَمَّ الْمَشَارِقَ وَالْمَغَارِبَ وَصَارَ كَالسُّنَنِ الصَّحِيحَةِ الْمُتَّبَعَةِ لِمَا لِلْأَنْفُسِ مِنَ الْهَوَى فِي ذَلِكَ.
ثُمَّ إِنَّ مَعْنَى الْحَدِيثِ عَلَى عَدَمِ صِحَّتِهِ مَتْنًا وَسَنَدًا: الْقِرَاءَةُ عِنْدَ الْمَيِّتِ، أَيِ الَّذِي حَضَرَهُ الْمَوْتُ كَمَا صَرَّحَ بِهِ رُوَاةُ الْحَدِيثِ ابْنُ حِبَّانَ وَغَيْرُهُ، وَصَرَّحُوا بِأَنَّ حِكْمَتَهُ سَمَاعُ مَا فِي السُّورَةِ مِنْ ذِكْرِ الْبَعْثِ وَلِقَاءِ اللهِ تَعَالَى لِيَكُونَ آخِرَ مَا تَشْتَغِلُ بِهِ نَفْسُ الْمَيِّتِ. وَقَدْ أَوْرَدَهُ أَبُو دَاوُدَ فِي (بَابِ الْقِرَاءَةِ عِنْدَ الْمَيِّتِ) وَابْنُ مَاجَهْ فِي (بَابِ مَا جَاءَ فِيمَا يُقَالُ عِنْدَ الْمَرِيضِ إِذَا احْتَضَرَ) وَقَالَ صَاحِبُ عَوْنِ الْمَعْبُودِ شَرْحِ سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ عِنْدَ عِبَارَةِ: «عَلَى مَوْتَاكُمْ» أَيِ الَّذِينَ حَضَرَهُمُ الْمَوْتُ، وَلَعَلَّ الْحِكْمَةَ فِي قِرَاءَتِهَا أَنْ يَسْتَأْنِسَ الْمُحْتَضِرُ بِمَا فِيهَا مِنْ ذِكْرِ اللهِ وَأَحْوَالِ الْقِيَامَةِ وَالْبَعْثِ. قَالَ الْإِمَامُ الرَّازِيُّ فِي التَّفْسِيرِ الْكَبِيرِ: الْأَمْرُ بِقِرَاءَةِ يس عَلَى مَنْ شَارَفَ الْمَوْتَ مَعَ وُرُودِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لِكُلِّ شَيْءٍ قَلَبٌ وَقَلْبُ الْقُرْآنِ يس» إِيذَانٌ بِأَنَّ اللِّسَانَ حِينَئِذٍ ضَعِيفُ الْقُوَّةِ وَسَاقِطُ الْمِنَّةِ لَكِنَّ الْقَلْبَ أَقْبَلَ عَلَى اللهِ بِكُلِّيَّتِهِ فَيَقْرَأُ عَلَيْهِ مَا يُزَادُ بِهِ قُوَّةُ قَلْبِهِ وَيَشْتَدُّ تَصْدِيقُهُ بِالْأُصُولِ. فَهُوَ إِذًا عَمَلُهُ وَمَهَمُّهُ، قَالَهُ الْقَارِئُ اهـ.
وَأَقُولُ: إِنَّ ابْنَ الْقَيِّمِ ذَكَرَ هَذَا الْحَدِيثَ فِي أَوَائِلِ كِتَابِ الرُّوحِ وَحَقَّقَ هَذَا الْمَعْنَى الَّذِي قَالَهُ عُلَمَاءُ الْمَنْقُولِ وَعُلَمَاءُ الْمَعْقُولِ بِمَا أَرْبَى بِهِ عَلَى الْفَرِيقَيْنِ. قَالَ نَفَعَنَا اللهُ بِعُلُومِهِ وَفِي النَّسَائِيِّ وَغَيْرِهِ مِنْ حَدِيثِ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ الْمُزْنِيِّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «اقْرَءُوا يس عِنْدَ مَوْتَاكُمْ» وَهَذَا يُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ قِرَاءَتُهَا عَلَى الْمُحْتَضِرِ عِنْدَ مَوْتِهِ مِثْلَ قَوْلِهِ: «لَقِّنُوا مَوْتَاكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ» وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْقِرَاءَةُ عِنْدَ الْقَبْرِ. وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ لِوُجُوهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ نَظِيرُ قَوْلِهِ: «لَقِّنُوا مَوْتَاكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ».
الثَّانِي: انْتِفَاعُ الْمُحْتَضِرِ بِهَذِهِ السُّورَةِ لِمَا فِيهَا مِنَ التَّوْحِيدِ وَالْمَعَادِ وَالْبُشْرَى بِالْجَنَّةِ لِأَهْلِ التَّوْحِيدِ وَغِبْطَةِ مَنْ مَاتَ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: {يَالَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ} [36: 26، 27] فَيَسْتَبْشِرُ الرُّوحُ بِذَلِكَ فَيُحِبُّ لِقَاءَ اللهِ فَيُحِبُّ اللهُ لِقَاءَهُ، فَإِنَّ هَذِهِ السُّورَةَ قَلْبُ الْقُرْآنِ، وَلَهَا خَاصِّيَّةٌ عَجِيبَةٌ فِي قِرَاءَتِهَا عِنْدَ الْمُحْتَضِرِ، وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو الْفَرَجِ بْنُ الْجَوْزِيِّ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ شَيْخِنَا أَبِي الْوَقْتِ عَبْدِ الْأَوَّلِ وَهُوَ فِي السِّيَاقِ، وَكَانَ آخِرُ عَهْدِنَا بِهِ أَنَّهُ نَظَرَ إِلَى السَّمَاءِ وَضَحِكَ وَقَالَ: {يَالَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ} وَقَضَى.
الثَّالِثُ: أَنَّ هَذَا عَمَلُ النَّاسِ وَعَادَتُهُمْ قَدِيمًا وَحَدِيثًا، يَقْرَءُونَ يس عِنْدَ الْمُحْتَضِرِ.
الرَّابِعُ: أَنَّ الصَّحَابَةَ لَوْ فَهِمُوا مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اقْرَءُوا يس عِنْدَ مَوْتَاكُمْ» قِرَاءَتَهَا عِنْدَ الْقَبْرِ لَمَا أَخَلُّوا بِهِ وَكَانَ ذَلِكَ أَمْرًا مُعْتَادًا مَشْهُورًا بَيْنَهُمْ.
الْخَامِسُ: أَنَّ انْتِفَاعَهُ بِاسْتِمَاعِهَا وَحُضُورِ قَلْبِهِ وَذِهْنِهِ عِنْدَ قِرَاءَتِهَا فِي آخِرِ عَهْدِهِ بِالدُّنْيَا هُوَ الْمَقْصُودُ، وَأَمَّا قِرَاءَتُهَا عِنْدَ قَبْرِهِ فَإِنَّهُ لَا يُثَابُ عَلَى ذَلِكَ، لِأَنَّ الثَّوَابَ إِمَّا بِالْقِرَاءَةِ أَوْ بِالِاسْتِمَاعِ وَهُوَ عَمَلٌ، وَقَدِ انْقَطَعَ مِنَ الْمَيِّتِ اهـ.
أَقُولُ: هَذَا التَّحْقِيقُ كَافٍ فِي بَابِهِ وَلَا يُنَافِيهِ مَا ذَكَرَهُ قَبْلَهُ فِي قِرَاءَةِ فَاتِحَةِ الْبَقَرَةِ وَخَاتِمَتِهَا عِنْدَ رَأْسِ الْمَيِّتِ عِنْدَ دَفْنِهِ- وَهُوَ أَثَرٌ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّهُ أَوْصَى بِهِ- فَإِنَّهُ فِي مَعْنَى تَلْقِينِ التَّوْحِيدِ قَبْلَ الْمَوْتِ وَهُوَ صَحِيحٌ، وَالتَّلْقِينُ بَعْدَ الدَّفْنِ وَالْحَدِيثُ فِيهِ ضَعِيفٌ، وَإِلَّا فَهُوَ بَاطِلٌ، وَقَدِ انْفَرَدَ بِرِوَايَتِهِ مُبَشِّرٌ الْحَلَبِيُّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْعَلَاءِ اللَّجْلَاجِ وَلَمْ يَرْوِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَحَدٌ غَيْرُ مُبَشِّرٍ هَذَا، وَغَايَةُ مَا قَالُوا فِيهِ إِنَّهُ مَقْبُولٌ، وَلَيْسَ لَهُ فِي دَوَاوِينِ السُّنَّةِ غَيْرُ حَدِيثٍ وَاحِدٍ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ. وَالصَّوَابُ أَنَّهُ لَا يَنْقُضُ قَوْلَ الْإِمَامِ أَحْمَدَ أَنَّ الْقِرَاءَةَ عِنْدَ الْقَبْرِ بِدْعَةٌ، وَإِنَّمَا يُخَصَّصُ عُمُومُهُ بِوُرُودِ الْقِرَاءَةِ عَنْ بَعْضِهِمْ عِنْدَ دَفْنِ الْمَيِّتِ فَقَطْ عَلَى مَا فِيهِ مِنَ الشُّذُوذِ.
وَمِمَّا ذَكَرْنَاهُ يُعْلَمُ سَبَبُ اخْتِلَافِ الْحَنَابِلَةِ فِي الْمَسْأَلَةِ، قَالَ ابْنُ مُفْلِحٍ فِي كِتَابِ الْفُرُوعِ: (فَصْلٌ) لَا تُكْرَهُ الْقِرَاءَةُ عَلَى الْقَبْرِ وَفِي الْمَقْبَرَةِ نُصَّ عَلَيْهِ، اخْتَارَهُ أَبُو بَكْرٍ وَالْقَاضِي وَجَمَاعَةٌ وَهُوَ الْمَذْهَبُ (خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ) وَعَلَيْهِ الْعَمَلُ عِنْدَ مَشَايِخِ الْحَنَفِيَّةِ، فَقِيلَ: تُبَاحُ. وَقِيلَ: تُسْتَحَبُّ، قَالَ ابْنُ تَمِيمٍ. نُصَّ عَلَيْهِ كَالسَّلَامِ وَالذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ وَالِاسْتِغْفَارِ وَعَنْهُ لَا يُكْرَهُ وَقْتَ دَفْنِهِ، وَعَنْهُ يُكْرَهُ اخْتَارَهُ عَبْدُ الْوَهَّابِ الْوَرَّاقُ وَأَبُو حَفْصٍ (وِفَاقًا لِأَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ) قَالَ شَيْخُنَا: نَقَلَهَا جَمَاعَةٌ وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ السَّلَفِ وَعَلَيْهَا قُدَمَاءُ أَصْحَابِهِ (أَيْ أَصْحَابُ أَحْمَدَ)... قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: أَبُو حَفْصٍ يُغَلِّبُ الْحَظْرَ (أَيْ كَوْنُهَا حَرَامًا) ثُمَّ هَاهُنَا ذَكَرَ وَصِيَّةَ ابْنِ عُمَرَ بِقِرَاءَةِ فَاتِحَةِ الْبَقَرَةِ وَخَاتِمَتِهَا عَلَى رَأْسِهِ عِنْدَ دَفْنِهِ، الَّتِي هِيَ سَبَبُ رُجُوعِ أَحْمَدَ عَنْ حَظْرِ الْقِرَاءَةِ مُطْلَقًا، وَالْخِلَافُ فِي نَذْرِ الْقِرَاءَةِ بِنَاءً عَلَى هَذَا الْخِلَافِ. وَقَوْلُ الْمَرُّوذِيِّ بِنَاءً عَلَى الْحَظْرِ فِيمَنْ نَذَرَ أَنْ يَقْرَأَ عِنْدَ قَبْرِ أَبِيهِ: يُكَفِّرُ عَنْ يَمِينِهِ وَلَا يَقْرَأُ- ثُمَّ قَالَ: وَعَنْهُ (أَيِ الْإِمَامُ أَحْمَدُ) بِدْعَةٌ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ فِعْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَفِعْلِ أَصْحَابِهِ فَعُلِمَ أَنَّهُ مُحْدَثٌ، وَسَأَلَهُ عَبْدُ اللهِ (أَيِ ابْنُهُ) يَحْمِلُ مُصْحَفًا إِلَى الْمَقْبَرَةِ فَيَقْرَأُ فِيهِ عَلَيْهِ؟ قَالَ: بِدْعَةٌ، قَالَ شَيْخُنَا: وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ الْمُعْتَبَرِينَ أَنَّ الْقِرَاءَةَ عِنْدَ الْقَبْرِ أَفْضَلُ وَلَا رُخَّصَ فِي اتِّخَاذِهِ عِيدًا كَاعْتِيَادِ الْقِرَاءَةِ عِنْدَهُ فِي وَقْتٍ مَعْلُومٍ أَوِ الذِّكْرِ أَوِ الصِّيَامِ، قَالَ: وَاتِّخَاذُ الْمَصَاحِفِ عِنْدَهَا وَلَوْ لِلْقِرَاءَةِ فِيهَا بِدَعَةٌ، وَلَوْ نَفَعَ الْمَيِّتَ لَفَعَلَهُ السَّلَفُ اهـ. وَلِهَؤُلَاءِ الْعُلَمَاءِ الْأَعْلَامِ نُصُوصٌ فِي بُطْلَانِ الْوَقْتِ عَلَى قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ عِنْدَ الْقُبُورِ كَبُطْلَانِهِ عَلَى مَا نَهَى عَنْهُ الشَّرْعُ مِنْ تَشْيِيدِهَا وَالْبِنَاءِ وَإِيقَادِ السُّرُجِ عَلَيْهَا وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْبِدَعِ الَّتِي صَارَتْ عِنْدَ الْجَمَاهِيرِ فِي عِدَادِ السُّنَنِ، بَلْ يَهْتَمُّونَ لَهُمَا مَا لَا يَهْتَمُّونَ لِلْفَرَائِضِ لِلْأَهْوَاءِ الْمَوْرُوثَةِ فِي ذَلِكَ. وَإِذْ قَدْ عَلِمْتَ أَنَّ حَدِيثَ قِرَاءَةِ سُورَةِ يس عَلَى الْمَوْتَى غَيْرُ صَحِيحٍ وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ مَنْ حَضَرَهُمُ الْمَوْتُ، وَأَنَّهُ لَمْ يَصِحَّ فِي هَذَا الْبَابِ حَدِيثٌ قَطُّ كَمَا قَالَ الْمُحَقِّقُ الدَّارَقُطْنِيُّ، فَاعْلَمْ أَنَّ مَا اشْتُهِرَ وَعَمَّ الْبَدْوَ وَالْحَضَرَ مِنْ قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ لِلْمَوْتَى لَمْ يَرِدْ فِيهِ حَدِيثٌ صَحِيحٌ وَلَا ضَعِيفٌ، فَهُوَ مِنَ الْبِدَعِ الْمُخَالِفَةِ لِمَا تَقَدَّمَ مِنَ النُّصُوصِ الْقَطْعِيَّةِ وَلَكِنَّهُ صَارَ بِسُكُوتِ اللَّابِسِينَ لِبَاسَ الْعُلَمَاءِ وَبِإِقْرَارِهِمْ لَهُ ثُمَّ بِمُجَارَاةِ الْعَامَّةِ عَلَيْهِ مِنْ قَبِيلِ السُّنَنِ الْمُؤَكَّدَةِ أَوِ الْفَرَائِضِ الْمُحَتَّمَةِ.
وَخُلَاصَةُ الْقَوْلِ: أَنَّ الْمَسْأَلَةَ مِنَ الْأُمُورِ التَّعَبُّدِيَّةِ الَّتِي يَجِبُ فِيهَا الْوُقُوفُ عِنْدَ نُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَعَمَلِ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ مِنَ السَّلَفِ الصَّالِحِ. وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّ الْقَاعِدَةَ الْمُقَرَّرَةَ فِي نُصُوصِ الْقُرْآنِ الصَّرِيحَةِ وَالْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ أَنَّ النَّاسَ لَا يُجْزَوْنَ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا بِأَعْمَالِهِمْ {يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا} [82: 19] {وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا} [31: 33] وَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلَّغَ أَقْرَبَ أَهْلِ عَشِيرَتِهِ إِلَيْهِ بِأَمْرِ رَبِّهِ أَنِ «اعْمَلُوا لَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ شَيْئًا» فَقَالَ ذَلِكَ لِعَمِّهِ وَعَمَّتِهِ وَلِابْنَتِهِ سَيِّدَةِ النِّسَاءِ. وَأَنَّ مَدَارَ النَّجَاةِ فِي الْآخِرَةِ عَلَى تَزْكِيَةِ النَّفْسِ بِالْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَالثَّوَابُ مَا يَثُوبُ وَيَرْجِعُ إِلَى الْعَامِلِ مِنْ تَأْثِيرِ عَمَلِهِ فِي نَفْسِهِ- إِلَخْ مَا تَقَدَّمَ شَرْحُهُ مِنَ التَّذْكِيرِ بِالْآيَاتِ الْكَثِيرَةِ وَالْأَحَادِيثِ فِيهِ، وَكُلُّ ذَلِكَ مِنَ الْأَخْبَارِ وَقَوَاعِدِ الْعَقَائِدِ فَلَا يَدْخُلُهَا النَّسْخُ.
وَوَرَدَ مَعَ ذَلِكَ الْأَمْرُ بِالدُّعَاءِ لِأَحْيَاءِ الْمُؤْمِنِينَ وَأَمْوَاتِهِمْ فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ وَفِي غَيْرِهَا فَالدُّعَاءُ عِبَادَةٌ ثَوَابُهَا لِفَاعِلِهَا سَوَاءٌ اسْتُجِيبَ أَمْ لَا، وَيَسْتَحِيلُ شَرْعًا وَعَقْلًا اسْتِجَابَةُ كُلِّ دُعَاءٍ لِتَنَاقُضِ الْأَدْعِيَةِ وَلِاقْتِضَاءِ الِاسْتِجَابَةِ أَلَّا يُعَاقَبَ فَاسِقٌ وَلَا مُجْرِمٌ إِلَّا إِذَا اتَّفَقَ وُجُودُ أَحَدٍ لَا يَدْعُو لَهُ أَحَدٌ بِرَحْمَةٍ وَلَا مَغْفِرَةٍ فِي صَلَاةٍ وَلَا غَيْرِهَا وَلِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ مِنْ تَعْطِيلِ كَثِيرٍ مِنَ النُّصُوصِ أَوْ عَدَمِ صِدْقِهَا.
وَوَرَدَ فِي الْأَخْبَارِ جَوَازُ صَدَقَةِ الْأَوْلَادِ عَنِ الْوَالِدَيْنِ وَدُعَائِهِمْ لَهُمَا وَقَضَاءِ مَا وَجَبَ عَلَيْهِمَا مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ، وَقَدْ بَيَّنَّا حِكْمَتَهُ مَعَ النُّصُوصِ فِيهِ، وَالظَّاهِرُ مِنْ هَذَا أَنَّ الْوَالِدَيْنِ يَنْتَفِعَانِ بِبَعْضِ عَمَلِ أَوْلَادِهِمَا لِأَنَّ الشَّارِعَ أَلْحَقَهُمْ بِهِمَا فَيَسْقُطُ عَنْهُمَا مَا يَنُوبُونَ عَنْهُمَا فِيهِ مِنْ أَدَاءِ دَيْنِ اللهِ تَعَالَى كَدُيُونِ النَّاسِ، وَيَنَالُهُمَا مِنْ دُعَائِهِمْ لَهُمَا خَيْرٌ، لَيْسَ هُوَ ثَوَابَ الدُّعَاءِ نَفْسِهِ، وَلَكِنْ مَدَارُ الْجَزَاءِ وَالنَّجَاةِ عَلَى عَمَلِ الْمَرْءِ لِنَفْسِهِ لَا عَلَى عَمَلِ أَوْلَادِهِ جَمْعًا بَيْنَ النُّصُوصِ.
فَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَتَّبِعَ الْهُدَى، وَيَتَّقِيَ جَعْلَ الدِّينَ تَابِعًا لِلْهَوَى، فَلْيَقِفْ عِنْدَ النُّصُوصِ الصَّحِيحَةِ وَيَتَّبِعْ فِيهَا سِيرَةَ السَّلَفِ الصَّالِحِ، وَيَعْرِضْ عَنْ أَقْيِسَةِ بَعْضِ الْخَلَفِ الْمُرَوِّجَةِ لِلْبِدَعِ. وَإِذَا زَيَّنَ لَكَ الشَّيْطَانُ أَنَّهُ يُمَكِنُكَ أَنْ تَكُونَ أَهْدَى وَأَكْمَلَ عَمَلًا بِالدِّينِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، فَحَاسِبْ نَفْسَكَ عَلَى الْفَرَائِضِ الْمُجْمَعِ عَلَيْهَا وَالصَّحِيحَةِ الَّتِي يَضْعُفُ الْخِلَافُ فِيهَا، وَانْظُرْ أَيْنَ مَكَانُكَ مِنْهَا، فَإِنْ رَأَيْتَ وَلَوْ بِعَيْنِ الْعُجْبِ وَالْغُرُورِ أَنَّكَ بَلَغْتَ مُدَّ أَحَدِهِمْ أَوَنَصِيفَهُ مِنَ الْكَمَالِ فِيهَا، فَعِنْدَ ذَلِكَ تُعْذَرُ فِي الزِّيَادَةِ عَلَيْهَا، وَهَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لَا يَدَّعِي ذَلِكَ إِلَّا جَهُولٌ مَفْتُونٌ، أَوْ مَنْ بِهِ مَسٌّ مِنَ الْجُنُونِ، وَإِنَّ أَكْثَرَ الْمُتَعَبِّدِينَ بِالْبِدَعِ، مُقَصِّرُونَ فِي أَدَاءِ الْفَرَائِضِ أَوْ فِي الْمُوَاظَبَةِ عَلَى السُّنَنِ، وَمِنْهُمُ الْمُصِرُّونَ عَلَى الْفَوَاحِشِ وَالْمُنْكَرَاتِ، كَإِصْرَارِهِمْ عَلَى مَا الْتَزَمُوا فِي الْمَقَابِرِ مِنَ الْعَادَاتِ، كَاتِّخَاذِهَا أَعْيَادًا تُشَدُّ إِلَيْهَا الرِّحَالُ، وَيَجْتَمِعُ لَدَيْهَا النِّسَاءُ وَالرِّجَالُ وَالْأَطْفَالُ، وَلاسيما فِي لَيْلَتَيِ الْعِيدَيْنِ وَأَوَّلِ جُمْعَةٍ مِنْ رَجَبٍ، وَتُذْبَحُ عِنْدَهَا الذَّبَائِحُ، وَتُطْبَخُ أَنْوَاعُ الْمَآكِلِ، فَيَأْكُلُونَ ثُمَّ يَشْرَبُونَ، وَيَبُولُونَ وَيَغُوطُونَ، وَيَلْغُونَ وَيَصْخَبُونَ وَيَقْرَأُ لَهُمُ الْقُرْآنَ، مَنْ يَسْتَأْجِرُونَ لِذَلِكَ مِنَ الْعُمْيَانِ، وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ، وَإِذَا كَانَ مَا يَأْتُونَ مِنَ الْقِرَاءَةِ وَالذِّكْرِ هُنَالِكَ مِنَ الْبِدَعِ الْمُنْكَرَةِ، وَكَانَ بَعْضُ الْمُبَاحَاتِ يُعَدُّ هُنَالِكَ مِنَ الْأُمُورِ الْمَكْرُوهَةِ أَوِ الْمُحَرَّمَةِ، فَمَا الْقَوْلُ فِي سَائِرِ أَفْعَالِهِمُ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ؟.
وَلَوْ لَمْ يَرِدْ فِي حَظْرِ هَذِهِ الِاجْتِمَاعَاتِ فِي الْمَقَابِرِ إِلَّا حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي السُّنَنِ الثَّلَاثَةِ مَرْفُوعًا بِسَنَدٍ صَحِيحٍ: «لَعَنَ اللهُ زَائِرَاتِ الْقُبُورِ وَالْمُتَّخِذِينَ عَلَيْهَا الْمَسَاجِدَ وَالسُّرُجَ» لَكَفَى وَلَكِنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ قَدْ صَارَ مِنْ قَبِيلِ شَعَائِرِ الدِّينِ، وَآيَاتِ الْيَقِينِ تُوقَفُ لَهَا الْأَوْقَافُ الَّتِي يُسَجِّلُهَا وَيَحْكُمُ بِصِحَّتِهَا قُضَاةُ الشَّرْعِ الْجَاهِلُونَ، وَيَأْكُلُ مِنْهَا أَدْعِيَاءُ الْعِلْمِ وَالْعِرْفَانِ الضَّالُّونَ الْمُضِلُّونَ، وَلَقَدْ كَانَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ وَغَيْرُهُمْ مِنْ عُلَمَاءِ السَّلَفِ يَتْرُكُونَ بَعْضَ السُّنَنِ أَحْيَانًا حَتَّى لَا يَظُنَّ الْعَوَامُّ أَنَّهَا مَفْرُوضَةٌ بِالْتِزَامِهَا تَأَسِّيًا بِالرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَرْكِ الْمُوَاظَبَةِ عَلَى بَعْضِ الْفَضَائِلِ خَشْيَةَ أَنْ تَصِيرَ مِنَ الْفَرَائِضِ، فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ قَصَّرُوا فِي الْفَرَائِضِ، وَتَرَكُوا السُّنَنَ وَالشَّعَائِرَ، وَوَاظَبُوا عَلَى هَذِهِ الْبِدَعِ، حَتَّى إِنَّهُمْ لَيَتْرُكُونِ لِأَجْلِهَا الْأَعْيَادَ وَالْجُمَعَ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ.
خُلَاصَةُ سُورَةِ الْأَنْعَامِ لَوْ سُمِّيَتْ سُوَرُ الْقُرْآنِ بِمَا يَدُلُّ عَلَى جُلِّ مَا تَشْتَمِلُ عَلَيْهِ كُلُّ سُورَةٍ أَوْ عَلَى أَهَمِّهِ لَسُمِّيَتْ هَذِهِ السُّورَةُ سُورَةَ عَقَائِدِ الْإِسْلَامِ، أَوْ سُورَةَ التَّوْحِيدِ، عَلَى مَا جَرَى عَلَيْهِ الْعُلَمَاءُ مِنَ التَّعْبِيرِ عَنْ عِلْمِ الْعَقَائِدِ بِالتَّوْحِيدِ لِأَنَّهُ أَسَاسُهَا وَأَعْظَمُ أَرْكَانِهَا، فَهِيَ مُفَصِّلَةٌ لِعَقِيدَةِ التَّوْحِيدِ مَعَ دَلَائِلِهَا، وَمَا تَجِبُ مَعْرِفَتُهُ مِنْ صِفَاتِ اللهِ تَعَالَى وَآيَاتِهِ، وَلِرَدِّ شُبَهَاتِ الْكُفَّارِ عَلَى التَّوْحِيدِ وَمَا يَتْبَعُ ذَلِكَ مِنْ هَدْمِ هَيَاكِلِ الشِّرْكِ وَتَقْوِيضِ أَرْكَانِهِ، وَلِإِثْبَاتِ الرِّسَالَةِ وَالْوَحْيِ وَتَفْنِيدِ شُبُهَاتِهِمْ عَلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِلْزَامِهِمُ الْحُجَّةَ بِآيَةِ اللهِ الْكُبْرَى وَهِيَ الْقُرْآنُ الْمُشْتَمِلُ عَلَى الْآيَاتِ الْكَثِيرَةِ مِنْ عَقْلِيَّةٍ وَعِلْمِيَّةٍ، وَمُبَيِّنَةٍ لِوَظَائِفِ الرَّسُولِ وَدَعْوَتِهِ وَهَدْيِهِ فِي النَّاسِ عَلَى اخْتِلَافِ طَبَقَاتِهِمْ وَأَحْوَالِهِمْ، وَلِلْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ، وَلِأَحْوَالِ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ وَأَعْمَالِهِمْ، وَلِأُصُولِ الدِّينِ وَوَصَايَاهُ الْجَامِعَةِ فِي الْفَضَائِلِ وَالْآدَابِ- وَلَيْسَ فِيهَا عَلَى طُولِهَا قِصَّةٌ مِنْ قَصَصِ الرُّسُلِ الْمُفَصَّلَةِ فِي السُّوَرِ الْمَكِّيَّةِ الطَّوِيلَةِ كَالْأَعْرَافِ مِنَ الطُّولِ، وَيُونُسَ وَهُودٍ مَنَّ الْمِئِينَ، وَالطَّوَاسِينَ مِنَ الْمَثَانِي، بَلْ جَمِيعُ آيَاتِهَا فِي الْأُلُوهِيَّةِ وَالرُّبُوبِيَّةِ وَالرِّسَالَةِ وَالْجَزَاءِ وَأُصُولِ الْبِرِّ وَأَحْوَالِ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ، وَآيَاتِ اللهِ وَحُجَجِهِ عَلَى الْعَالَمِينَ، وَإِنَّمَا ذُكِرَ فِيهَا مِنْ قَصَصِ الرُّسُلِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ مُحَاجَّةُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ فِي التَّوْحِيدِ، وَمَا آتَاهُ اللهُ مِنَ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ لِمَا بَيَّنَاهُ مِنْ حِكْمَةِ ذَلِكَ، وَذُكِرَ فِيهَا مُوسَى وَالتَّوْرَاةُ لِلشَّبَهِ بَيْنَ رِسَالَتِهِ وَكِتَابِهِ وَبَيْنَ رِسَالَةِ مُحَمَّدٍ وَكِتَابِهِ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ كَمَا شَرَحْنَاهُ فِي مَحَلِّهِ، وَمِنْهُ وَصَايَا الْقُرْآنِ الْعَشْرُ وَوَصَايَا التَّوْرَاةِ الْعَشْرُ، وَذُكِرَ فِيهَا أَيْضًا مَا كَانَ مِنْ حَالِ الرُّسُلِ عَامَّةً مَعَ أَقْوَامِهِمُ الْمُشْرِكِينَ لِأَجْلِ الْعِبْرَةِ وَتَسْلِيَةِ خَاتَمِ الرُّسُلِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ وَعَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ. وَإِنَّنَا بَعْدَ هَذَا الْإِجْمَالِ نُذَكِّرُ الْقُرَّاءَ بِبَعْضِ الْأُصُولِ الَّتِي يَغْفَلُ الْكَثِيرُونَ عَنْ جُمْلَتِهَا وَفَوَائِدِ الْجَمْعِ بَيْنَهَا.
أَسَالِيبُ الْقُرْآنِ فِي الْعَقَائِدِ الْإِلَهِيَّةِ:
أَمَّا مَسَائِلُ الْعَقَائِدِ فِي الْإِلَهِيَّاتِ فَقَدْ فُصِّلَتْ أَبْلَغَ تَفْصِيلٍ بِأَسَالِيبِ الْقُرْآنِ الْعَالِيَةِ الْجَامِعَةِ بَيْنَ الْإِقْنَاعِ وَالتَّأْثِيرِ، كَبَيَانَ صِفَاتِ اللهِ فِي سِيَاقِ بَيَانِ أَفْعَالِهِ وَسُنَنِهِ فِي الْخَلْقِ وَالتَّكْوِينِ، وَالتَّقْدِيرِ وَالتَّدْبِيرِ. وَآيَاتِهِ فِي الْأَنْفُسِ وَالْآفَاقِ، وَطَبَائِعِ الِاجْتِمَاعِ وَمَلَكَاتِ الْأَخْلَاقِ، وَتَأْثِيرِ الْعَقَائِدِ فِي الْأَعْمَالِ وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا فِي الدَّارَيْنِ مِنَ الْجَزَاءِ، وَنَاهِيكَ بِإِيرَادِ الْحَقِيقَةِ بِأُسْلُوبِ الْمُنَاظَرَةِ وَالْجِدَالِ، أَوْ وُرُودِهَا جَوَابًا بَعْدَ سُؤَالٍ، أَوْ تَجَلِّيهَا فِي وُرُودِ الْوَقَائِعِ وَضُرُوبِ الْأَمْثَالِ، وَهَذَا الْأُسْلُوبُ أَعْلَى الْأَسَالِيبِ وَأَكْمَلُهَا جَمْعًا بَيْنَ إِقْنَاعِ الْعُقُولِ وَالتَّأْثِيرِ فِي الْقُلُوبِ، فَيَقْتَرِنُ الْيَقِينُ فِي الْإِيمَانِ، بِحُبِّ التَّعْظِيمِ وَخُشُوعِ الْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ. وَفِي أَثْنَاءِ ذَلِكَ يَذْكُرُ شُبَهَاتِ الْمُشْرِكِينَ وَالْكُفَّارِ، فَيَكُونُ مَثَلُهَا فِيهِ كَقِطْعَةٍ مِنَ الطِّينِ الْآسِنِ تُلْقَى فِي غَدِيرٍ صَافٍ. يَتَدَفَّقُ مِنْ صَخْرٍ. عَلَى حَصْبَاءَ كَالدُّرِّ. لَا تَلْبَثُ أَنْ تَتَضَاءَلَ وَتَخْفَى. وَلَا تُكَدِّرَ لَهُ صَفْوًا. حَتَّى إِنَّهُ لَيُسْتَغْنَى، بِمُجَرَّدِ بَيَانِهَا، عَنْ وَصْفِ قُبْحِهَا وَالْحُجَّةِ عَلَى بُطْلَانِهَا، فَكَيْفَ وَهِيَ تُقْرَنُ غَالِبًا بِالْوَصْفِ الْكَاشِفِ لِمَا غَشِيَهَا مِنَ التَّلْبِيسِ. أَوْ يُقَفَّى عَلَيْهَا بِالْبُرْهَانِ الدَّامِغِ لِمَا فِيهَا مِنَ الْأَبَاطِيلِ. وَلَا تَغْفَلُ عَنْ أُسْلُوبِ إِحَالَةِ الْمُخَاطَبِينَ عَلَى مَا أُوْدِعَ فِي غَرَائِزِهِمْ وَفِطَرِهِمْ.